يقال الانسان كائن اجتماعي يحتاج للتواصل البشري والعلاقات الانسانية، فهم احد العوامل الاساسية للحصول على حياة جيدة وصحة السلامة العقلية. ولا يخفى على احد مدى قدرة التكنولوجيا اليوم بايصالنا ببعض بشكل مستمر يكاد يكون على مدار الساعة بسبب برامج التواصل الاجتماعي التي تتغير كل فترة فتارة تصبح للتواصل وتارة اخرى لتناقل الاخبار واصبحت ايضا عبارة عن منصات للسوق التجاري. وتطور تكنولجيا التواصل جعلت العالم قريبا وأصغر.
ولكون الانسان اليوم يحمل هاتفه معه بكل مكان، أثناء الجلوس مع الاصدقاء، أثناء قيادة السيارة وحتى اثناء استخدام الحمام، ويستخدمه لأغراض متعددة فأصبح اليوم هو المكتب والتلفون والبطاقة الائتمانية ولا نعلم ماذا سيصبح مستقبلا. فالتلفون الذكي أكثر من آلة، انه جزء من الانسان اليوم.
عند ذهابي الى احدى العيادات الطبية وانتظاري للدخول على الدكتور، جلست في قاعة الانتظار وكان كل من هم في حولي يحمل هاتفه ويقلب بين الصفحات بالرغم ان بعضهم لم يأتوا لوحدهم ولكن لا يتحدثون الى بعض واستمروا باستخدام هواتفهم. أما المجلات التي وضعت على الطاولة للتسلية فلم يستخدمها أحد. وتسائلت لماذا علينا ان نحشو عقولنا بالمحتوى بأي فرصة سواء كنا مشغولين أو لم نكن مشغولين. لماذا لم نعد نحدق بالحائط ونفكر بما سنفعله في الغد أو نسترجع الذكريات في عقولنا. يبدو أن اكتسبنا عادة جديدة وهي حشو العقل بالمحتوى، فأشفق على هذا العقل الذي لا نستطيع ان ندعه وشأنه الا في النوم، هذا ان لم يطور المبرمجين مستقبلا محتوى يأتينا في الاحلام ويتضمن دعايات ورعاية تجارية ايضا.
هناك عدة تجارب تؤكد ان ترك التلفون الذكي في الايام الاولى يعد صعبا ويشعر الانسان بالملل القاتل كأن ليس لديه شيء يعمله بسبب تأثير التلفون على تحفيز هرمون الدوبامين (الدوبامين هو مادة كيميائية وناقل عصبي في الدماغ، يرتبط بالحالات الإدمانية والاكتئاب 1. يعزز من الشعور بالسعادة ويرسل إشارات بين الجسم والدماغ 1. التوازن الصحيح للدوبامين في جسم الإنسان هو أمر في غاية الأهمية والحيوية، حيث أنّه يلعب دورًا في التحكّم بالمهارات الحركية والاستجابات العاطفية ما يجعله أساسيّا للصحة البدنية والعقلية 1.)
ونستنتج من ذلك ان عدم استخدام الهاتف يشعر الانسان بالملل وأن اثارة العقل تكمن بمتابعة ما يحدث في العالم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والتي تشكلت حسب المستخدمين مما يعني الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي يجعلنا خارج ما يحدث وقد يفوتنا شيء حسب ظاهرة Fear of Missing Out.
يستهلك الانسان يوميا الاف المحتويات سواء مهمة او تافهة، سواء ما يحدث في روسيا او رقصة جديدة تنتشر كTrend فأنت لم تعد تستطيع اختيار ما تشاهده بل انت مجبر بمشاهدة كل شيء واستهلاكه لتشعر في آخر اليوم بتعب رغم انك لم تبارح كرسيك! وأن اللوغاريتمات التي تختار لك المحتوى لم تصبح محدودة بما تشاهدة بل توسعت بشكل كبير لكي تغذي انحيازك. فإن كنت من مؤيدي نظرية المؤامرة ستغرقك اللوغاريتمات بها وتجعلك أكثر اقتناعا بدلا من ان تجعلك ترى الجانب الاخر لكي تصبح الصورة كاملة. فعندما تخلق حسابا في احد وسائل التواصل الاجتماعي تحاول ان تكتب عن نفسك او تعبر عنها لكي تتميز وتصبح أنت ولكن مع التواصل المستمر والدخول في الجدالات المتكررة ومتابعة من يوافقونك بالرأي والميول ستجد نفسك نسخة مكررة من اشحاص آخرين من غير ان تشعر. فتلك الافكار والمحتوى اليومي سيشكل شخصيتك ويصرها مع الاخرين ولا يعزز شخصيتك الفريدة.
يعاني الغالب اليوم من اضاعة الوقت بسبب برامج تواصل الاجتماعي بالذات بالاضافة الى يوتيوب. فتلك الساعات التي تشاهد فيها المحتويات المختلفة تجعلك تدخل في حفرة أرنب أليس في بلاد العجائب وتضيع الى ان تضيع معها الساعات والاعمال المفروض كنت تنجزها. وتلك هي المشكلة الحقيقية التي يعاني منها الغالب وهي اين يذهب وقتنا مع قضائها بوسائل التواصل الاجتماعي ومشاهدة المفيد والغير مفيد الذي يعنينا والذي لا يعنيننا. وللك تجد الكثير من الكتب والفيديوات تدعو الى التركيز وعدم التشتت بحذف هذه البرامج. وأجد ان من الصعوبة حذف هذه البرامج لما تمتلكه ايضا من أمور مفيدة.
وهنا يحق لنا أن نسأل لماذا يعتبر الانتباه سلعة ثمينة يكرز عليها المبرمجون؟ يعرف اقتصاد الانتباه attention economics الذي يعامل انتباه الفرد على انه سلعة ثمينة ونادرة، ولذلك تجد انتباهك مشتت بسبب كثرة الدعايات التي تظهر في التلفون الذكي وايضا برمجة المحتوى لكي يكون صغيرا سريع الهضم مثل فيديوات Reel التي تبلغ 30 ثانية او التغريدات القصيرة وغيرها من محتويات قصيرة. فأنت يوميا تتعرض لمواضيع متعددة ومختلفة سواء شئت أم أبيت وذلك بسبب البرمجة لهذه المنصات والتطبيقات، وهنا نتسائل هل لدي الانسان مقدرة على استهلاك هذا المحتوى المتنوع يوميا؟
وبالرغم من كل ما ذكرناه عن التلفون الذكي وخصوصا ادمان وسائل التواصل الاجتماعي اذن ما الحل؟ هل العزلة هي أحد الحلول لكي يعيد الانسان توازنه ونفسه؟
لنتحدث قليلا عن العزلة. تعرف العزلة بأنها انقطاع التواصل عن البشر او الانعزال عنهم وعلينا ان نفرقها عن الوحدة. فالعزلة اختيارأما الوحدة فقد تكون لعدم القبول الاجتماعي أو نتيجة لمرض نفسي. وبالرغم ان العزلة لها سمعة سيئة بأن يكون الانسان منطوي على نفسه وغير اجتماعي الا ان المنعزلين اليوم عملة نادرة بسبب سهولة الاتصال مع الاخرين في التلفون الذكي.
وارتبطت الصورة النمطية للعزلة بالرهبان ومن لم يستطيع تحمل المجتمع، وانها تتطلب مقدرة خارقة على التخلي عن كل هذا التواصل والرفاهية من أجل أن يضل الانسان وحدة. وبالرغم أن العزلة قد تبدو قاسية وصعبة الممارسة الا انها فرصة للتخلص من الضوضاء وان يعيد الانسان اكتشاف نفسه. وهناك رواية تسمى Walden نشرت في 1854 والتي هي عبارة عن مذكرات هنري والدن الذي قام بإعتزال المدينة والبقاء في الغابة لمدة سنتان لاكتشاف نفسه عبر التأمل في الطبيعة، وقد عاش بالاعتماد على نفسه بالزراعة والأكل دون الحاجة الى الكماليات كما أسماها ،وذكر ان المجتمع الحضاري جعل الحياة مؤسسية وابتلع الفرد وأن التكنولوجيا لم تحسن حياة الانسان. وبالرغم ان العزلة انذاك تعني انعزال المجتمع فعليا الا انها اليوم قد تعني انعزال المجتمع الكترونيا. فالعزلة اليوم تعني ان تبتعد عن برامج التواصل الاجتماعي وتلتفت الى نفسك وتعمل ما هو مهم أو ما كان مؤجل.
برأي الاستخدام العادل والوعي هو الحل لهذه الظاهرة، حيث لا يمكن ان نعيش بمعزل عن العالم ولا نستطيع ان نكون متصلين Online طوال اليوم، فالأول سيجعلنا نفوت الفرص والثاني يجعلنا متعبين ونسخة مكررة من اشخاص اخرون.
هناك عدة أمور يمكن فعلها للتوازن بين العزلة والتواصل الاجتماعي مثل:
1- بناء الوعي حول كمية استخدامك للهاتف ومراجعة انتاجيتك وحالتك النفسية قبل النوم
2- تحديد أوقات معينة لاستخدام الهاتف
3- وضع حد كساعة يوميا لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي
4- ممارسة الهوايات بشكل أكبر
5- القضاء مع الاهل والاصدقاء ووضع الهاتف بعيدا
6- الغاء التنبيهات Notifications من التلفون الذكي
نختم هذا المقال بأن هناك ضرورة للتنبيه حول هذا الموضوع الذي يشتكي منه غالب البشر وأن ليس هناك من هو مثالي باستخدام الهاتف والتوصل الاجتماعي ولكن علينا المحاولة كي نعود بشر طبيعيين.